منع السلطات الجزائرية لأساتذة التاريخ من التصريحات للإعلام الأجنبي يكشف محاولة واضحة لاحتكار السرد التاريخي، وقمع أي رواية بديلة قد تفضح الثغرات في الذاكرة الرسمية للدولة.
في خطوة أثارت جدلاً واسعًا، فرضت السلطات الجزائرية قيودًا جديدة على أساتذة التاريخ في الجامعات، تمنعهم من التصريح لوسائل الإعلام الأجنبية دون ترخيص مسبق. هذه الخطوة، التي وصفها مراقبون بأنها “قمع للتاريخ” و”تعتيم رسمي على ذاكرة مهشمة”، تفتح الباب أمام تساؤلات حقيقية حول ما الذي يُراد إخفاؤه في تاريخ الجزائر، ولماذا يتحول الباحث والمؤرخ إلى “تهديد محتمل” حين يروي الوقائع بعيدًا عن الخطاب الرسمي.
خنق الذاكرة الجماعية
لطالما شكّلت الذاكرة التاريخية في الجزائر ساحة للصراع السياسي، خاصة في ظل محاولات النظام المستمرة لتقديم رواية موحّدة ومُحكمة حول الثورة التحريرية ضد الاستعمار الفرنسي، مع تجاهل ممنهج للعديد من المحطات المعتمة، مثل جرائم ما بعد الاستقلال، وحرب العشرية السوداء، والمجازر المرتكبة في حق المدنيين، أو حتى ملف الهوية الأمازيغية ومسألة التنوع الثقافي المقموع.
منع أساتذة التاريخ من الحديث بحرية لوسائل إعلام خارجية، لا يُعدّ سوى امتداد لمنهج سلطوي يحاول احتكار السرد التاريخي ومنع أي رواية بديلة قد تُربك “الأسطورة الرسمية”. ويأتي هذا القرار في وقت تتزايد فيه الدعوات لفتح أرشيفات الدولة وتمكين الباحثين من الوصول إلى وثائق حساسة تتعلق بتاريخ الجزائر السياسي والعسكري، وهو ما يواجه عادةً بالرفض والصمت.
التاريخ الذي لا يُكتب… لا يُسمح بسرده
المفارقة أن النظام الجزائري يمنع المؤرخين من التصريح دون “إذن”، في وقت تعاني فيه الجامعات من نقص فادح في الدراسات التاريخية الموثقة، بسبب غياب الأرشيفات المفتوحة، وخضوع البحث الأكاديمي لرقابة أمنية غير معلنة. فكيف يمكن إنتاج معرفة تاريخية ذات مصداقية في ظل هذا الحصار؟
بل إن الحديث عن “التاريخ غير الموجود” لم يعد مجرد مجاز، بل واقع يعاني منه الطلبة والباحثون داخل الجامعات الجزائرية، حيث يُنظر لأي محاولة لإعادة قراءة الماضي خارج القالب الرسمي على أنها تهديد “للوحدة الوطنية” أو “خدمة لأجندات أجنبية”.
الصحافة الأجنبية… مرآة تزعج النظام
لماذا يُمنع الأستاذ الجامعي من الحديث لصحيفة فرنسية أو قناة عربية دولية؟ الإجابة ببساطة لأن النظام يدرك أن الصحافة الحرة تطرح الأسئلة التي تخشى السلطة سماعها. فالصحافة الأجنبية ليست ملزمة بمجاملة السلطة، وقد تعطي مساحة للمؤرخين للحديث عن ملفات مسكوت عنها، مثل اغتيالات السياسيين بعد الاستقلال، ودور المخابرات في صناعة التاريخ الرسمي، والتلاعب برموز الثورة لخدمة أنظمة ما بعد 1962.
ومع اتساع فضاء الإعلام البديل، بات من الصعب على السلطات الجزائرية التحكم الكامل في تدفق المعلومة، ما يدفعها لاتخاذ خطوات استباقية لحصار “الرواية الأخرى”، حتى لو تطلب الأمر منع باحث أكاديمي من الإدلاء برأيه في موضوع تخصصه.
حين يتحول التاريخ إلى جريمة
ما يجري اليوم في الجزائر ليس مجرد تضييق على الحريات الأكاديمية، بل هو محاولة صريحة لتكميم أفواه الذاكرة. فالسلطة لا تريد مؤرخًا، بل موظف أرشيف مهمته ترديد ما يُملى عليه. وحين يخرج المؤرخ عن هذا الدور، يُعامل كمجرم أو عميل.
القلق الحقيقي ليس فقط في ما يُمنع من النشر، بل في ما يُصنع من صمت، لأن التاريخ حين لا يُكتب بحرية، تتحول الأجيال القادمة إلى رهائن لأساطير مصنوعة لا تمتّ إلى الحقيقة بصلة.
خاتمة: من يكتب التاريخ في الجزائر؟
في أي دولة ديمقراطية، يكون التاريخ ملكًا للناس، وتُكتب رواياته بحرية ضمن أطر البحث العلمي والتنوع الفكري. أما في الجزائر، فإن من يكتب التاريخ هو السلطة، ومن يقرأه خارج السطر يُصنّف عدوًا.
وما حظر التصريحات الإعلامية على المؤرخين سوى دليل إضافي على هشاشة الرواية الرسمية، التي تخشى أن تُفضح إن سمحنا للباحثين بقول الحقيقة.